طباعة

الدولة والجسد في مقدمة ابن خلدون

Posted in الثقافة


كان من نتيجة اعتماد آلية (الجسد)الشاهد أنه أعلى من شأن المنطق الحسي لفهم الأمور الاجتماعية والسياسية، وخفف من وطأة المنطق الأرسطي العقلاني المجرد الذي كان يصلح لبحث الأمور القياسية كالهندسة والحساب، وخفف من سطوة المنطق الكشفي الذي كان يصلح للبحث في الأمور الإلهية والروحية([3]).صارت الدولة والعمران من اختصاص المنطق الحسي.

الدولة هي نموذج الجسد، أي هي ما نتعالى عليه ونترفع وننكره باسم ما هو روحي، ألسنا ننكر القوة والقهر والغلبة باسم الهمجية والحيوانية؟ وهي كلها مقتضيات الجسد، وهي مقتضيات الدولة، ما يشكل الدولة هو مقتضيات الجسد. وآثار الغضب والحيوانية التي هي مقتضيات الجسد هي ما يصدمنا حد الإنكار، لا يمكن أن يكون الإنسان من غير جسد، ما هو ضروي هو ما يصنع الدولة، هو قوامها. ما ننكره هو الضروري، هو الدولة، هو ما يتحكم فينا هو ما يقهرنا ويغلبنا ويجمعنا. الدولة هي القوت.

والقوت هو ما ينشئ السوق “إن الدولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم، ومنه مادة العمران”([4]) لا ينشأ السوق بدون دولة، بدون قوة بدون عمران، بدون اجتماع، بدون جسد. السوق يحتاج إلى قوة تحميه وتؤمن له تداولاً مستقراًً. الدولة هي السوق الأعظم للعالم، لأن العالم يعمر بالسوق، ويعظم بالسوق، ويقوى بالسوق.

ليس لدى ابن خلدون نظرية في إصلاح الدولة، لكن لديه نظرية في إصلاح نظرتنا للدولة، ونظريته تتمثل في تصرفه في الشاهد (الجسد ) ليجعله وسيلة لرؤية العمران والعصبية والقوة والدولة. لقد تصرف أخوان الصفا والفارابي وابن رشد وأفلاطون وابن سيناء بشاهد (الجسد) لكنهم لم يشاهدوا منه ما شاهده ابن خلدون، رأوا فيه روحاً تعلو نحو السماء، وهو رأى فيه قوة تدنو نحو الأرض، فراح يتقصى أوديته الأرضية وجباله وحواضره وبواديه، فصار عنده جسد للبادية، وجسد للحاضرة، أي عمران للبادية وعمران للحاضرة.

بهذا يمكننا أن نفهم، كيف فهم ابن خلدون سنة الله في الذين خلوا من الدول “لما كانت حقيقة المُلك أنه الاجتماع الضروري للبشر، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية، كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم، لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته، ويختلف ذلك باختلاف المقاصد من الخلف والسلف منهم، فتعسر طاعته لذلك، وتجيء العصبية المفضية إلى الهرْج والقتل. فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم. وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها، ولا يتم استيلاؤها: “سنة الله في الذين خلوا من قبل”([5]).
FacebookMySpaceTwitterDiggDeliciousStumbleuponGoogle BookmarksRedditNewsvineTechnoratiLinkedinRSS Feed