البوابة
الإحتباس النفسي
سلمت عليه ودعوت له بخير (كما كنت أفعل حين يزورني في العيادة) ورجوته أن ينتظم في أخذ العلاج وأن يحضر للمتابعة في موعدها , فشكرني وتحرك مسرعا ليحضر بضع جنيهات يسافر بها إلى رفح مرة أخرى
وقبل أن أصل إلى بيتي دار في رأسي حوار كان قد دار , أيضا مع أحد مرضايا النفسيين الطيبين , والذي ذهب ليصلي في الجامع الأزهر كعادته فقابله أحد أفراد الأمن , وطلب منه بطاقته , ثم منعه أن يدخل المسجد وطلب منه أن يذهب فيصلي في أي مكان آخر , فاستسلم للأمر ورجع , ولكنه لم يستطع التخلص من شعوره بالضعف إزاء هذا الموقف وظل يلوم نفسه ولا يرى النوم لعدة أيام , ويقول : لماذا رجعت وتراجعت ؟.. لماذا لم أصر على الدخول للصلاة والمشاركة في المظاهرة التي حدثت هناك بعد الصلاة ؟؟ .. ولماذا صمم آخرون على الوصول إلى المسجد والمشاركة في المظاهرة لإعلان تأييدهم للمقاومة الصامدة في غزة .. كان أفضل لي أن أعتقل مثلهم , على الأقل كنت سأحترم نفسي , وأقول لطفلي الصغير حين يكبر أنا لم أسكت وقت حدوث المجزرة الإسرائلية وتصفية المقاومة بل فعلت ما استطعت .
لقد تأكدت من صفاء ونقاء نفوس المرضى النفسيين وازداد حبي لهم , فهم على الرغم من معاناتهم وضعفهم ومشاكلهم , وفشلهم في إدارة حياتهم أحيانا , إلا أنهم أكثر صراحة وصدقا وحبا ... وأكثر شفافية وإخلاصا .
وحضرني في نفس اللحظة صوت وصورة أحد المستشاريين السياسيين الكبار (تعرفه بأنه قصير القامة والمقام والنظر) وهو يتحدث في أحد الندوات لمجموعة من النخبة , وكان منطقه براجماتيا ملتويا ومليئا بكل معاني الإنتهازية والنذالة , ويتخلى عامدا في حديثه عن كل القيم الدينية والوطنية والقومية النبيلة ويعتبرها شعارات عفى عليها الزمن ويفخر في المقابل بواقعيته وحكمته وموضوعيته , ويروج لفكرة "مصر أولا وأخيرا" بشكل أناني مفرط في الإنغلاق مع أنه يدّعي انتماؤه للقوميين العرب . وكلما حاوره أحد مذكرا إياه بالدور التاريخي والقيمة الحضارية والثقافية لمصر في محيطها العربي والإسلامي فضلا عن المحيط العالمي , كان يبدو عليه الضيق , فهو يعتبر هذه الأمور شعارات جوفاء خرقاء , وأن العالم قد تغير وتغيرت فيه القيم والمفاهيم , وتغيرت موازين القوى , وأن علينا أن ندرك ذلك ونتعامل معه , ولا مفر أمامنا من قبول إسرائيل والتعامل معها , والتسليم بالقوة الأمريكية المهيمنة على العالم بلا منازع , وأن نكون متعقلين في كل قراراتنا ولا تدفعنا مشاعرنا (سواءا كانت دينية أو وطنية أو قومية) ولا تغرينا شعاراتنا القديمة لأن نأخذ مواقف عنترية ندفع ثمنها غاليا , وأن نهتم في المقام الأول والأخير بالحفاظ على أرواحنا وأرواح شعبنا وعلى لقمة عيشنا وعيشه , وكان يغلب عليه نغمة الموظف الذي يحاول بكل ما يملك المحافظة على وظيفته وعلى راتبه آخر كل شهر . وأذكر أنني شعرت وهو يتحدث بحالة احتباس وضيق شديدين مع رغبة في القئ , وشعرت بالخطر أن يكون هذا تفكير المستشارين السياسيين الكبار لدينا , وتأكد بعد ذلك كيف تؤثر أفكار واتجهات هذا المستشار على مسار الأمور في الأحداث المختلفة الكبير منها والصغير .
وهذا التوجه الذي يمثله هذا المستشار وغيره من المستشارين وبعض المفكرين والمثقفين الداجنين أو المستأنسين , ويجد قبولا من أصحاب القرار , قد شكل فجوة هائلة بين الإرادة السياسية الرسمية وبين الشارع المصري والعربي , وهذه الفجوة تتسع يوما بعد يوم , مما خلق حالة من الإغتراب بين الناس وبين حكوماتهم , وانقطعت خطوط التواصل وحل محلها شك واتهام وتوجس وعدم مصداقية ومظاهر عدائية متبادلة . وبما أن السلطة الرسمية في العالم العربي تملك القرار , وتملك التنفيذ بشكل مطلق لا يشاركها فيه أحد , لذلك انسدت منافذ التعبير الشعبي الحقيقية , وأصبح الناس يتساءلون : ماذا يجب علينا أن نفعل تجاه ما يحدث ؟؟ ... هل نكتفي بالدعاء لإخواننا الفلسطينيين , كما ينادي كثير من الدعاة الطيبين المسالمين ؟؟ ...