طباعة

موفق الدين عبد اللطيف البغدادي

Posted in الثقافة

 

يُعدُّ البَغداديُّ أوَّلَ طَبيبٍ عربِي تَنبَّه إلى مَرَض السكَّري diabetes mellitus، وشخَّص أعراضَه السَّريرية، ولخَّصها باسِترسال البول وذربه، والعطش الدَّائم الشَّديد بسب كثرة التبوُّل وانطراح الماء الذي يردُ إلى الكلية دون الاستفادة منه، يقول: "وتُسمَّى هذه العلَّةُ ديابيطا ومعناه عَبَّارة الماء ..." والدَّيابيطا أو الدَّيابيطس كلمةٌ إغريقية أطلقها اليونان على داء السكَّري، كما يقول: "إنَّ هُزالَ البَدن وجفوفه من علامات هذا الدَّاء»؛ ثم يصف البغداديُّ معالجتَه التي تقوم على الحمية والتَّغذية المقنَّنة والراحة والهدوء النَّفسي.

كما أنَّ البَغدادي هو أوَّلُ من قال إنَّ الفكَّ السُّفلي هو قطعةٌ واحدة لا دَرزَ فيها، مُخالِفاً في ذلك رأيَ جالينوس وابن سينا، وذلك بعد التَّجارُب الكثيرة التي قام بها، حيث يقول في كتابه "الإفادة والاعتبار": "إلاَّ أنَّنا شاهدنا أُلوفاً من العِظام والهياكل، وقُمنا بفحصها بدقَّة مُتَناهية"، ثمَّ يقول: "وكانَ جالينوس قد عَلَّمنا بأنَّ الفكَّ الأسفل يتألَّف من عظمين، يجمع بينهما نسيجٌ ضام، غير أنَّنا عاينَّا ألفي عظم، ولم نجد فيها فكاً واحِداً مؤلَّفاً من عظمين ... إنَّه عظمٌ واحد دون أيِّ رَفو".

ضاعَت أكثرُ مؤلَّفات البَغدادي بسبب الكَوارث والحروب والهجمات المغوليَّة والصَّليبية التي تعرَّضت لها بلادُ العَرب والإسلام؛ فبعضُها أُحرِق، وبعضُها سُلِب ونُقِل إلى مكتبات بلاد المهاجمين، واندثرَت بسبب ذلك معظمُ الثَّروة الفكريَّة العربيَّة والإسلاميَّة. وما بَقِي من كتب البغدادي ذكرُه ابنُ أبِي أصيبعة في كتابِه "عُيُون الأنباء في طبقات الأطبَّاء»، مثل مقالةٍ في الحواس ومُدرَكاتها ومراتبها ونَسب بعضِها إلى بعض، "مقالة في الدِّيابيطس (داء السكَّري) والأدوية النافعة فيه"،  "مقالة في ميزان الأدوية المركَّبة من جهة المركَّبات"، كتاب "الكفاية في التَّشريح"، كتاب "انتِزاعات في منافع الحشائش" ... إلخ.

وعَزمَ البَغداديُّ في أَواخِر حَياته أن يؤدِّي فريضةَ الحجِّ، وجعل طريقَه من بغداد لكي يُهدي بعضَ مؤلَّفاته للخليفة المستنصِر بالله، فمرضَ أثناء ذلك بمرضٍ عُضال، ووافته المنيَّةُ فيها ثالِثَ أيَّام عيد الأضحى المبارك سنة 629 هـ عن 72 عاماً. وترك وراءَه ثروةً علميَّة كبيرة بلغت أكثر من 150 كتاباً في الطبِّ والفقه والفلسفة والمنطق والتاريخ واللغة والأدب والعلوم الأساسية وغيرها.

كان البَغداديُّ حَكيماً، موفَّقَ العبارَة، سَديد النَّصيحة، ومن أَقوالِه التي يجدر الوقوفَ عندها:

- ... ولا تظنَّ أنَّك إذا حَصَّلت علماً، فقد اكتفيتَ، بل تَحتاج إلى مُراعاته لينموَ ولا يَنقُص؛ ومراعاتُه تكون بالمُذاكَرة والتفكُّر، واشتغال المبتدئ بالتلفُّظ والتعلُّم، ومُباحثة الأقران، واشتِغال العالِم بالتَّعليم والتَّصنيف ...

- وينبغي أن تكونَ سيرتُك سيرةَ الصَّدر الأوَّل، فاقرأ سيرةَ النَّبِي صلىَّ اللهُ عليه وسلَّم، وتَتبَّع أفعالَه وأحوالَه، واقتفِ آثارَه، وتَشبَّه به ما أمكنك وبقدر طاقتك؛ وإذا وقفتَ على سيرته في مَطعمِه ومَشربِه ومَلبسِه ومَنامِه ويَقظتِه وتَمرُّضه وتَطبُّبه وتَمتُّعه وتَطيُّبه، ومُعاملته مع ربِّه، ومع أَزواجه وأصحابِه وأَعدائه، وفعلتَ اليسيرَ من ذلك، فأنتَ السَّعيد كل السَّعيد.

- ومن لم يَحتمِل ألمَ التعلُّمَ لم يَذُق لَذَّةَ العِلم، ومن لم يَكدح لم يُفلِح، وإذا خلوتَ من التعلُّم والتفكُّر، فحرِّك لسانَك بذكر اللّه وبتَسابيحه، وخاصَّة عندَ النَّوم، فيَتشرَّبه لُبُّك، ويَتعجَّن في خَيالك، وتُكلِّم به في منامك.

- واجعلَ الموتَ نُصبَ عَينِك، والعلمَ والتُّقى زادَك إلى الآخرة؛ وإذا أردت أن تعصيَ اللَّهَ، فاطلبْ مَكاناً لا يراك فيه؛ واعلم أنَّ الناسَ عيونُ اللَّه على العبد، يُريهم خيرَه وإن أخفاه، وشرَّه وإن سترَه.

- لا أقول إنَّ الدُّنيا تُعرِض عن طالب العلم، بل هو الذي يُعرِض عنها، لأنَّ هِمَّتَه مَصروفةٌ إلى العلم، فلا يبقى له التفاتٌ إلى الدُّنيا، والدُّنيا إنَّما تحصل بحرصٍ وفكر في وجوهها؛ فإذا غَفلَ عن أسبابها لم تأتِه، ... وتَطلبُه من غير أن يطلبَها ... ومن جدَّ في طلبِ العُلوم أَفاتَه شرفُ العلوم دناءةَ التَّحصيل

FacebookMySpaceTwitterDiggDeliciousStumbleuponGoogle BookmarksRedditNewsvineTechnoratiLinkedinRSS Feed